في ظل التطورات الاقتصادية المتسارعة التي تشهدها المملكة العربية السعودية، برزت ضرورة إنشاء منظومة قضائية متخصصة في النزاعات التجارية، بما يضمن تسريع آليات التقاضي وتحقيق العدالة الناجزة. وعلى ضوء هذا التوجه، صدر, نظام المحاكم التجارية، ليكون الإطار القانوني الذي يُعزّز البيئة الاستثمارية، ويرسّخ مبدأ الشفافية والأمان القانوني بين الأطراف التجاريّة.
أولًا: الخلفية الشرعية والفقهية للتقاضي التجاري
مشروعية القضاء في المعاملات التجارية
يستند النظام القضائي في المملكة إلى الشريعة الإسلامية باعتبارها المصدر الرئيس للتشريع؛ وفي هذا الشأن، قال العلاّمة ابن قدامة المقدسي – رحمه الله – في كتابه “المغني”: “المعاملات المشتركة والحِرف بالأصل مشروعة إذا خلت من المحرمات”، مشيرًا إلى وجوب تحريّ العدالة والمنفعة المستقبلية المشروعة. كما يستدل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “المسلمون عند شروطهم” (رواه الترمذي)، وما يُستفاد منه في لزوم الوفاء بالعقود التجارية طالما لم تخالف الأحكام الشرعيّة.
وقد أكّد كثير من فقهاء الأمة على أهمية الاختصاص في القضاء؛ إذ إن استيعاب التفاصيل الفنية للتجارة والصناعة يحتاج إلى توافر القاضي أو الهيئات القضائية القادرة على الإلمام بالتشريعات التجارية والعرف التجاري، مما يحقق العدالة بحق وموضوعية.
ثانيًا: نظام المحاكم التجارية في السعودية
تأسيس المحاكم التجارية ووظائفها
تم إنشاء المحاكم التجارية استنادًا إلى التوجه العام للمنظومة القضائية الهادفة لتخصيص دوائر وقضاة مختصين بالنظر في النزاعات التجارية. ويهدف النظام إلى تحقيق عامل السرعة في الفصل بين التجار والمستثمرين، وضمان استقرار الأسواق الاستثمارية وفق مرجعية ثابتة. ومن أبرز الأحكام والمواد النظامية هي المادة الثانية حيث تُحدد المحاكم التجارية اختصاصها بالنظر في الدعاوى والخصومات المتعلقة بالمعاملات التجارية، كعقود البيع والشراء، والعقود البنكية، وعقود الإيجار التجارية، والتأمين، والأوراق التجارية. كما يؤكد النظام في مادته الرابعة على أهمية المصالحة والتسوية التجارية قبل اللجوء إلى القضاء، حيث يعد التحكيم والوساطة طريقين بديلين يُشجّع النظام الأطراف على سلوكهما، تمهيدًا لحل النزاع بسرعة وكفاءة. ويتيح النظام الاستعانة بالخبراء والمحاسبين المختصين في القضايا ذات الطبيعة الفنية، ممّا يضمن صدور الأحكام بناءً على أسس فنية صحيحة تعزز ثقة المستثمرين كما جاء ذكره في المادة الحادية عشر. أما المادة السابعة عشر فقدت أجاز بها النظام على إنشاء دوائر متخصصة داخل المحكمة التجارية – مثل الدائرة المصرفية أو التأمين أو المقاولات – لضمان عمق التخصص وسرعة الفصل في المنازعات.
ثالثًا: القيم المضافة لنظام المحاكم التجارية
“تشجيع الاستثمار واستقطاب رؤوس الأموال” ويمثل وجود محاكم متخصصة انعكاسًا حقيقيًا لمدى حرص المملكة على حماية حقوق المستثمرين ورؤوس الأموال، مما يرسّخ صورة إيجابية لدى المؤسسات والشركات المحلية والعالمية. إضافةً إلى “رفع جودة الأداء القضائي”
بتخصيص قضاة لديهم مهارات وتدريب قانوني وتجاري متخصص، ينخفض هامش الخطأ وتقل مدة التقاضي، علاوة على الارتقاء بمستوى الأحكام الصادرة.
رابعًا: العلاقة بين النظام والفقه الإسلامي
أقر الفقه الإسلامي مبدأ “العقد شريعة المتعاقدين” التزام الأطراف ببنود الاتفاقية أو العقد طالما لم يشتمل على محظورات شرعية، وهو ما ينعكس في النصوص النظامية التي تَحترم عقود التجارة وتضع الضوابط لحل المنازعات عند الإخلال بها.
أما من ناحية التوفيق بين المبادئ الشرعية والأنظمة الوضعية فقد جاء نظام المحاكم التجارية متسقًا مع الشريعة الإسلامية، إذ يضمن تحقيق العدل والمساواة في الخصومات، مع مراعاة العصـرنة في إجراءات التقاضي، كالاعتماد على الأدلة الرقمية واستخدام النظم الإلكترونية.
ختامًا
يُعَدّ نظام المحاكم التجارية في المملكة العربية السعودية خطوة مهمة لمواكبة التطورات الاقتصادية والوفاء بمتطلبات رؤية السعودية 2030 في جذب الاستثمارات، وتأكيد التزام القضاء بالشفافية والسرعة في فض النزاعات. ومع تأصيله بالأحكام الفقهية والشرعية التي تُرسّخ مبادئ العدل والتكامل، يضمن هذا النظام للمستثمرين روحية القانون الإسلامي المتسامح، وفي الوقت ذاته ينفتح على المعايير الدولية الحديثة في المعاملات التجارية.
وفي «شركة حرف للمحاماة»، نسعد بتقديم الاستشارات القانونية والتوكيـل في الدعاوى التجارية؛ حرصًا على حفظ حقوق العملاء ودعمهم بخبرة متخصصة في الأنظمة السعودية والفقه الإسلامي فيما يتعلق بالعمل التجاري.